عائض الأحمد
حينما تنصرف إلى رصد أفعال من تُحب، وتتبع خُطاهم، قد يُصيبك الذهول، وتفاجئك صدمة اللامتوقّع؛ كأنك أقسمت على الملائكة أن تسكن الأرض، وتستوطن أنت سماء أحلامك الوردية، تلك التي قرأتَ عنها في روايات العشّاق، وفي حكايات من سُلبت عقولهم في لحظات هيامٍ أعمى.
تلك الوردة التي رسمتَ تفاصيلها في خيالك، لم تكن يومًا إلا ظلاً باهتًا لحقيقةٍ لم تتخيلها؛ فالحب حين لا يُقابل بحب، يتحول إلى مرآةٍ تعكس وجعنا نحن، لا وجوه من أحببناهم.
نحن لا نُحبهم بذاتهم، بل نُحب الصورة التي رسمناها لهم في دواخلنا، نُزيّنها بالحلم، ونُطرّزها بالأمل، ونتجاوز من أجلها كل إشارات التحذير.
نغضّ الطرف عن التناقضات، ونتغافل عن الإشارات الواضحة، ثم نُفاجأ- حين تقع الحقيقة كصخرة- أن قلوبهم لم تكن تسكن معنا المكان ذاته.
نعم.. في الحب نحن نُصادق الخيال أكثر مما نُصادق الواقع، نُحبّ طريقتهم في الوجود كما نتخيلها نحن، لا كما هم عليها فعلاً.
وحين تُسقطنا الحقيقة من علٍ، فنحدّق بدهشة: "أيعقل أن يغيب وهو يعلم؟"
وننسى أننا نحن من منحناهم كل هذا الحضور.
من الموجع أن تكتشف أن كل ما منحته من وقتٍ ومشاعر كان يُترجم على الطرف الآخر بلا قيمة، وأن من تراقبه بتفاصيل الحريص، لا يشعر حتى أنك تنظر إليه.. حينها لا يُولد الحزن فقط؛ بل يُولد وعيٌ جديد، مؤلم وصادق.
القسوة لا تأتي دائمًا من فعلٍ جارح، أحيانًا تأتي من سلسلةٍ من التصرفات الصغيرة: من البرود، من الإهمال، من صمتٍ يتكرر، ومن شعورك بأنك وحدك من يسأل ويتابع ويهتم.
لكن، ورغم الوجع، تبقى كل تجربة حب درسًا عميقًا في فهم الذات. إننا نُحب؛ فنفهم ما نريد، نُخذل فنفهم ما نستحق.
نتألم… لكننا نكبر.
ونكتشف أننا حين بنينا "سماء أحلامنا الوردية"، نسينا أن الأرض من تحتها كانت تُخبرنا بالحقيقة.
لم أكن أكثر صدقًا منك، ولم أكن ملاكًا ألبسته رداء الفضيلة، فخطئي ربما كان أعظم، وجُرأتي على قرار الهروب إلى الخلف أسقطت الكثير من زجاج مرايانا.
لكن، ألم أكن أكثر شفافية منك؟ ولو عاد بك شريط الذكريات، لسمعتِ توسّلي ونداء قلبي: "عودي… قبل أن نكسر عتبة بابنا، فتندمي، ويسقط برواز الدار، ثم نحاول إعادته… دون أن نقدر".
كُنَّا نرى الجميع في كفة، ونحن في الأخرى، حتى مالت بنا، وتأرجحت أمانينا، وتبللت أوصالنا، فثقل حملنا، ولم تعد سواعدنا تقوى على المسير.
أثقلنا الوَجْد، وأثقلتنا السنوات؛ بما لم يكن حتى حلمَ ليلٍ مزعج، حتى علمتُ يقينًا… أنك تُحضرين الرحيل.
لم يكن جسدك من يغيب؛ بل روحك كانت تبشرني بالفقد، أتجرعه في كل لقاء، أو نظرة، أو همسة.
فلا تعيدي الدور ذاته… لا تسلكي الدرب وأنتِ تعلمين إلى أين يفضي.
الخذلان حين يتكرّر لا يُفقدنا فقط من نُحب؛ بل يُفقدنا الثقة، والدهشة، وحتى القدرة على الحنين. فلا تكرري خطأك، ولا تُهدري ما تبقى من ملامحنا الجميلة، فبعض الفرص إن ولّت، لا تعود… وإن عادت، لا تُشبهنا أبدًا.
وفي النهاية، الحب لا يُقاس بمداه أو دفئه؛ بل بمدى صدقه، وبمن حضر… حين كان الحضور ضرورة، لا رفاهية.
لها: اعتذرتُ منها مرّة، وخجلتُ من نفسي مرارًا، لم يكن يليق بي أن أسلك ذات الطريق الذي اختارته.
شيء من ذاته: لم أكن في حديقةٍ غنّاء، حتى أفرش الرمل وأبحث عن قطرة ماء.
نقد: تخاف النقد، لكنها تستحضره حين يلائم حكايتها.